في عالمٍ يرفعُ راية الكمال، وتتجذّر فيه مقاييس جديدة للنجاح؛ حيث تُقاس الإنجازات بأصفارٍ على اليمين، وتُبنى القيمة على الألقاب، يأتي الموسم الثالث من برنامج سين ليطرح سؤالًا يعرقل هذه القواعد، ويضعها على كرسيّ الاتّهام. فهل الكمال ممكن؟ وهل المثالية ممكنة؟ إذا كانَ بحرًا أو غروبًا فهما كامِلَين مثاليين؛ أما الإنسان، فكلُّ وصولٍ له؛ يتبعه رحلة أخرى، وكل رحلةٍ تنتهي؛ تتبعها رحلات. وهنا؛ تتجلّى فكرةُ التحسين المستمرّ مثل غيمةِ صيف، وتتجلّى قيمة التقدّم خطوة بخطوة، وبمحاولة تلو الأخرى، وأن تُؤتى الرحلة بما فيها من أشواك وعثرات، ومسرّات وورود؛ والأسمى والأهمّ؛ أن ينقضي السيرُ دون أعذار، إذْ لا تبني الأعذار ديارًا. كل إنسانٍ حكاية؛ لكنّ البشريّة جمعاء؛ تشتركُ في حكايتها الكبرى، وهي سعيها للتقدّم والتحسين، نرسمُ في هذا الموسم الثالث من برنامج سين ملامحَ التجربة الإنسانيّة بقلمِ رصاص، لوحةً نقية؛ خام؛ غير مصقولة، تتغيّر باستمرار، ومبنيّة طبقةً تلو الأخرى. إذا كان هناك شجرةٌ كبرى استظلّ بها هذا الموسم؛ فهي السؤال، فمن السؤال يبدأ كل مقال. ومن السؤال، تبدأ الإجابات، ومن السؤال أيضًا، يبدأ التغيير. هذا موسم السردِ المليء بالأسئلة، الشحيح بالإجابات، موسم التجارب الحيّة، وآلاف الأميال المقطوعة من ثقافةٍ إلى أخرى؛ لنتأكّد أن الصورة التي نراها في المرآة، ليست متوهّجة بزيادة أو نقصان، وتعكسُ حقيقتنا؛ بما فيها من جمال، وما يستحقّ التحسين. إذا كان هذا الموسمُ بيتًا، فله أعمدة، وهي لقاءات واقعية مع أصحاب الحكايات الملهمة؛ سواءَ أوصلتْ هذه الحكايات إلى النجاح؛ أم لم تصل؛ فما لم يحدث اليوم، لا يزال بالإمكان أن يحصل غدًا، خصوصًا لو كان وقود التوق إليه؛ هو التحسين. عمودٌ آخر من أعمدة هذا الموسم؛ هو التنوّع في المواضيع؛ بدءًا من الإنسان؛ وما يهمّه كالسعادة، وما يمسّه كالألم، وانطلاقًا إلى إنسانٍ يبني بتحسينه أمّة، مثل قصص نجاح بعض الدول في التحسين وإبادة الفقر. أما آخر أعمدة هذا الموسم، والذي يكادُ يكون أكثر الأعمدة امتلاءً، فهو الواقعية، والاستغناء عن الذهاب بالأفكار إلى مراحلها المثالية، فكل فكرة، وكل موضوع، وكل حلقة من هذا العمل، لا تُقدّم إجابةً جاهزة، بل تتركُ المشاهِد أمام عرضٍ مسرحيّ مفتوح من الأسئلة التي تقدّم نفسها؛ لتصل به إلى التحسين، ليس تحسينًا يقتصر أثره على الفردّ، إنما يمتدّ إلى العائلة والبلد والأرض والسماء.
مرّ سين خلال مواسمه الثلاث؛ بما يشبه رحلة التسلّق؛ حيث بدأ الموسم الأول بعرض تجارب الدول والبشر في التحسين. أما في الموسم الثاني؛ انتقلنا إلى عالَمٍ يعرضُ الماضيْ والحاضر وما هنا، وما هو هناك؛ في مقاربات تعطيَ أملًا أن التحسين ممكن، بينما في الموسم الثالث؛ وصل البرنامج إلى قمّة الجبل؛ وهو طرح أسئلة التحسين، وتغيير المنظور الشائع أن المثالية ممكنة، واستبدالها بفكرةٍ مفادها أن التحسين رحلة، والرحلة لا تنتهي، وظهر هذا في الكثير من التجارب الحيّة التي يعرضها هذا الموسم مناقِشًا من خلالها المفاهيم والأفكار.
خلال مسيرته اللامعة التي استمرت عشرينَ عامًا في الإعلام، قدّم الشقيري العديد من البرامج المحفورة في ذاكرة المشاهدين والأفلام الوثائقية ذات الأثر؛ عبر منصات مختلفة، بما في ذلك التلفزيون، ووسائل التواصل الاجتماعي. يُعتبر الشقيري أحد الشخصيات الأكثر تأثيرًا في العالم العربي؛ وله تأثير على جيل كامل من الشباب الذي استلهموا أفكار التحسين من خلال برامجه التي لا تزال حاضرة إلى اليوم. من أبرز أعمال الشقيري برنامج "خواطر" الذي استمرَّ لأحد عشر موسمًا اتّسمتْ بالتميّز والتنوّع، وتبع البرنامج مجموعة من الأفلام الوثائقية والبرامج مثل "لو كان بيننا"، و"إحسانٌ من الحرم"، و"إحسانٌ من المدينة" وكذلك الموسمَيْن الأول والثاني من برنامج “سين” الذي يُعتبر سلسلة عن التحسين؛ تكتمل بهذا الموسم الثالث. حظيت إنتاجات الشقيري بتقدير واسع ووصلت إلى كلّ بيت في العالم العربي؛ وشهدتْ انتشارًا ملحوظًا خارج الشرق الأوسط، لملامسة هذه البرامج لكل ذهن وعقل؛ يسعى ويحبّ التحسين، ويلاحقُ الأمل.
بدأت مرحلة البحث من خلال عدّة جلسات عصف ذهني لاختيار المواضيع الأمثل التي تشكّل التنوّع المناسب لهذا الموسم وهدفه الأساسي.
نظرا لأن البرنامج بهويّته يدفع باتجاه التحسين، كان من الطبيعي أن تكون رحلة فريق البحث المختار بعناية؛ رحلة من البحث والبحث وإعادة البحث؛ وصولا إلى المعلومة الأدقّ والأكثر سلاسة وقربًا من المشاهِد. وقد شملتْ هذه المرحلة عدة أنواع، منها الاطّلاع على المواقع الإلكترونية الموثوقة، والتواصل مع الجهات الرسمية، وكذلك التواصل مع ذوي الاختصاص، وأيضًا قراءة بعض الكتب والمراجِع، وفي بعض الأحيان اضّطر الفريق لإجراء زيارات ميدانية للتأكد من المعلومات المقدّمة، والأمر اللافت في هذه الرحلة، أن جزءا من الأفكار الخاصة بالحلقات والفقرات جاء من خلال استطلاعات رأي تعبّر عن رأي الناس ورؤاهم.
لم يقتصر عمل فريق البحث على استخراج المعلومات الخام من مواردها؛ إنما صاغ هذه المعلومات بطريقة قصصية جاذبة، من خلال إجراء مقارنات وتشبيهات تجعل من السهل فهم وهضم هذه المعلومات التي كانت في جزء كبير منها تطرح سؤالًا أكثر من كونها تقدّم الحقائق، أيضًا فإن المعلومات المقدّمة تم تبسيطها قدر الإمكان؛ لأن المعلومة المعقّدة والجافّة؛ لن تلقى القبول لدى المشاهِد مهما كانت مهمّة.
قضى فريق البحث قرابة الثلاثة آلاف ساعة من البحث؛ أي ما يقارب مئة وخمسة وعشرين يومًا.
حين تودّ الأفكار أن تصبح ملموسة؛ وتأخذَ شكلًا ولونا وطعمًا؛ لا بدّ أن تتبلور في مرحلة “الإنتاج” هذه الرحلة التي تأخذ الأفكار رويدًا رويدًا إلى شكلٍ يلامس الحواسّ؛ ويدخل في عمق الفعل والتجربة؛ وفي هذه المرحلة تحديدًا، يصبح الإبداع رزقًا والنتيجة تستحقّ الشكر. صورةً وصوتًا؛ وتجربةً تعاش.
تمرّ مرحلة الإنتاج بعدّة خطوات دقيقة، تبدأ بتحديد الفكرة وتحليلها، ثم تصميم الحلول الإبداعية الأكثر قابلية للتطبيق؛ ثم الانتقال بهذه الحلول إلى أرض الواقع، والتقاطها بحرفيّة عالية، وبتنوّع مذهل، لنضمن أن الصورة لن تصل مقصوصة، وأن الإطار على أكمل وجه.
لأن الإلهام معضلة كونية، فقد توجهه فريق "سين 3" عددًا من الدول، منتقلاً من قلب العراقة في دمشق، حلب، وحماة، إلى مراكز الإبداع والتطوير في بكين، شنزن، ودبي. ومن ساحات الريادة في الرياض، جدة، والقاهرة، إلى مصانع الإنتاج في غوانزو وإييو، حيث تتجلّى فلسفة التقدّم. في كل محطة، كان الهدف واحدًا: طرح أسئلة حول الأسئلة، وإجراء مقارنات تؤكّد أن التحسين ممكن، وأنه ليسَ حكرًا على أحد.
لا يعتمد إنتاج برنامج سين على نصٍ مكتوب، ولا يلتزم بخطة مدروسة لتصوير الفقرة أو إنتاج الحلقة، إنما يلاحق المتغيّرات ويطارد العفوية والواقعية، فمعظم ما يراه المشاهِد لأول مرة، يكون قد رآه فريق التصوير في الموقع أيضًا لأول مرّة، فالدهشة الحقيقية على الشاشة، كانت كذلك خلف الكاميرات.
لا تخلو الرحلة من تحدّيات، والرحلات الإنتاجيّة متميّزة دائما في مجال صناعة الإعلام في تحدّياتها؛ لكن ولأنها تحدّيات فهناك مَن يتحدّاها ويتجاوزرها؛ مهما كثرتْ أو تراكمت أو في أي وقتٍ تطرأ فيه أو تحلّ ضيفة ثقيلة. لا يُقاس النجاح بجودة الصورة، بل بجودة الركض في سباق تنسيق جداول التصوير وسط التزاماتٍ متشابكة، تمتد إلى حجوزات المواقع والمعدات والضيوف وفرق الإنتاج المختلفة، وفوارق اللغات ومواقع التصوير، وضيوف هذه المواقع. بعناية شديدة، نُسج الرحلة الإنتاجية؛ حتى تكون متماسكة أمام الزمن والجغرافيا والطقس والطائرات والتحدّيات بمختلف أنواعها. ففي مرّة، ومن أجل تصوير حبّة بُن، تنقّل الفريق بالطائرة والقطار والسيارة ثم مشيًا على الأقدام.
حيث تبدأ الحكاية لصقل التفاصيل في هذه المرحلة، ويأخذ الإبداع شكلًا نهائيًا بعد أن كان رؤى، بدءًا من التلاعب وإعادة ترتيب الزمن وربط المشاهِد وصناعة الإيقاع السردي، مرورًا بالنسيج الفنّي الذي يضمن سلاسة التنقل بين الفقرات، وصولاً إلى طبقة الصوت التي لا تقلّ أهمية عن طبقة الصورة، فالعين ترى والأذن تسمع. أما المكوّن السحريّ في وصفة برنامج سين؛ فهو فريق الأنيميشن والرسومات ثنائية وثلاثية الأبعاد، الذي يحوّل القصص إلى ما يبدو كأنه خيال تراه أمامك؛ وينتقل بين صورة الواقع والصورة المرسومة بذكاء، ليلعب الخيال والواقع معًا في إيقاعٍ واحدٍ، لا يكاد يبدو منفصلاً، إنما كأنه وليد الصورة الأصليّة.
لستَ وحدَك، لا لا لا لا لا، بل كلّنا كنّا وما زلنا لنا زلّاتنا، بهذه الكلمات تبدأ أغنية الشارة، التي تعكس جوهر “سين” في قمّة نضوجه في هذا الموسم، إذ إن رحلة التحسين لن تقضيها وحدك، وزلّاتك ليس استثناءً لك، فكلّ منا له قصّة عبر السنين، ومشواره في السعي للتحسين. بلحنٍ يعكس العمق العاطفيّ وهويّة “سين”، وبصوتٍ يلوّن الأغنية ويملؤها بالحياة، تتحوّل الشارة من مقدّمة برنامج تلفزيوني إلى أيقونة.